نستطيع من خلال دراسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن نستخلص العناصر والنقاط الآتية التي تشكل أهم أخلاقيات المهن في الاسلام كما يأتي :-
1- أهمية الإخلاص في كل عمل لاحتساب الأجر:-
فبدون الإخلاص يحبط العمل، ويرد على صاحبه ، ولايؤجر عليه عند الله تعالى ،
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: " قالَ اللّهُ تَباركَ وتَعالى أنا أغنى الشُرَكاءِ عَن الشِرك . مَن عَمِلَ عَمَلا أشركَ فيهِ معي غيري تركتُهُ وشِركَهُ " ( رواه مسلم )
فالإخلاص شرط في قبول الله تعالى للعمل الصالح ، قال الله تعالى: " وَما أُمِروا إلاّ ليَعبُدوا اللّه مُخلِصين له الدينَ " ، وقال: " ألا للّه الدين الخالِص " ، قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما . وهكذا فإن تمام اليقين بشهادة أن لا إلَه إلاّ الله أن لا ينوي حينما يفعل إحسانا الاّ أن ذلك لله وحده ، ولا يترك فعلا إلا لله ، ولا يتأثر بفعل ما سواء حضر الناس أم غابوا . فإنه ليس لله حاجة بعبادة أحد له ، وهو أغنى الشركاء عن الشرك ، فإذا أشرك العبد في أمر ما بحيث قصد أن يكون لله وللناس فإن الله غير محتاج لذلك العمل . وعلى المسلم أن يراقب نيته وقصده في كل عمل فما كان فيه شركا مع الله تعالى فعليه أن يصحح نيته فيه لكي تكون خالصة لله.
2- أهمية استحضار النية الطيبة لأصحاب المهن قبل البدء بالعمل:-
ولأهمية النية في كل عمل ، واشتراطها لقبوله، يبدأ الكثير من كتب الحديث بالحديث المشهور الذي قال عنه بعض أئمة الحديث أنه وصل حد التواتر المعنوي " إنّما ألأعمال بالنيات وإنّما لكُل إمرئ ما نوى ، فَمَن كانت هِجرَتُهُ إلى اللّه ورسولِه فهِجرتُه إلى اللّه ورسوله ، ومَن كانت هجرتُه لدُنيا يُصيبُها أو إمرأة ينكِحُها فهجرته إلى ما هاجر إليه " اخرجه البخاري
وبالنية تتفاضل الأعمال ، وتكتسب الحسنات ، وتتفاوت المنازل والدرجات، فقد روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : " إنّ اللّه كَتَب الحَسَنات والسيئات ثُمّ بيَّن ذلك فَمَن هَمّ بِحَسَنَة فَلَم يَعمَلها كَتَبَها اللّه تَبارَكَ وَتَعالى عندَهُ حَسَنَة كاملة ، وإن هَمّ بها فَعَملها كَتبها اللّه عشر حَسَنات إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هَمّ بِسيئة فَلَم يَعملها كتَبَها اللّه تَعالى عنده حَسَنَة كاملة ، وإن هَمّ بها فَعَمِلَها كَتَبَها اللّه سيئَة واحِدة " متفق عليه البخاري ومسلم
فالنية أساس العمل ، تقترن النية الصالحة بالعمل القليل فترفعه ليكون من أقرب القربات ، أما النية السيئة فإذا اقترنت بالعمل الصالح الكثير فإنها تحيله إلى هباء منثور. قال تعالى: " وَقَدِمنا إلى ما عَملوا من عَمَل فَجَعلناهُ هباء منثورا " [4). ـ
أنظر إلى كرم الله تعالى: ينوي المرء فعل حسنة ثم لا يفعلها فيكتبها الله له حسنة ، فإذا فعلها تضاعفت عشرا أو مائة أو سبعمائة أو أكثر من ذلك إلى ما شاء الله بحسب نيته وإخلاصه.وإن نوى فعل سيئة ثم فعلها ، كتبت له سيئة واحدة لاغير. أما إذا لم يفعلها فإن الله يكتبها له حسنة . ولا تعجب من ذلك فإن ترك السيئة هو حسنة بذاته.
فينوي الطبيب في علاجه المرضى :مرضاة الله أولا ، ثم التخفيف من معانات المرضى، وإدخال السرور عليهم، والإسهام في تقوية أبدانهم للدخول في قولهه تعالى : ((ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ))0
وينوي الحائك (الخياط) بعمله مرضاة الله أولا ، ثم إدخال السرور على الناس، وتجميلهم وتحسين مظهرهم ،عملا بقوله صلى الله عليه وسلم :"إن الله جميل يحب الجمال"
وينوي الجزار بعمله مرضاة الله أولا ، ثم إدخال السرور على الناس بإطعامهم الأطايب، وصونهم عن المحرمات من الطعام، وإعانتهم على أكل الحلال الطيب، عملا بقوله تعلى : (( كلوا من طيبات ما رزفناكم)) 0
وينوي المعلم بعمله مرضاة الله تعالى أولا ، ثم إدخال السرور على طلابه ، بتزكيتهم بالعلم النافع، وتخليتهم عن الجهل القادح ، وغرس الفضائل في نفوسهم وينوي بمهنته الدخول في بشارة النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" (الترمذي وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) ، و في بشارته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : - ( إِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْبَحْرِ) سنن ابن ماجه - (ج 1 / ص 278)
ويحث طلابه أيضا على الدخول في بشارة النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ بِهِ عِلْماً سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقاً مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضاً لِطَالِبِ الْعِلْمِ"سنن الدارمي - (ج 1 / ص 383)
" وهكذا في جميع المهن 0
وهذا الحديث السابق يذكر المؤمن بأن ينوي فعل الخير في كل لحظة يستطيع ذلك ، فإن إستطاع تنفيذ فعل الخير فبها ونعمت ، وإن لم يستطع فإن الله يجازيه على حسن نيته. وهكذا فإن نية المؤمن خير من عمله لأن ما ينويه من خير أكثر مما يستطيع عمله في وقته المحدود وماله المحدود وقابلياته المحدودة . ولذلك على المرء أن يراقب نيته كما يراقب عمله فإذا ما وجد في نيته قصدا لغير الله وجب عليه تصحيح نيته في ذلك.
وقد يعجب بعض الناس من بركة عمل صالح لفرد ما حيث تتضاعف الفائدة منه وبذلك ينال صاحبه أجرا عظيما ، بينما لايحصل آخر عمل عملا مشابها على مثل تلك النتيجة ، وما ذلك في أغلب الأحيان إلا بتأثير النية الحسنة 0
3- عدم التحاسد بين الأقران خاصة وهم أصحاب المهنة الواحدة:-
وأن يسود بينهم روح التنافس الشريف ، والتعاون المثمر فقد نهى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحسد ، وحذر منه في مواضع عديدة منها:-
ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا " صحيح البخاري - (ج 19 / ص 8)
قال ابن سيرين : ما حسدت أحداً على شئ من أمر الدنيا، لأنه إن كان من أهل الجنة، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى الجنة، وإن كان من أهل النار، فكيف أحسده على شئ من أمر الدنيا، وهو يصير إلى النار .
ومع تحريم الحسد وذمه ، أذن النبي صلى الله عليه وسلم في لون آخر منه، وهو التنافس الطيب ، والغبطة بالخير0
قال الطحاوي في مشكل الآثار في الجمع بين المعنيين:-
"جوابنا له أن الحسد ينقسم قسمين فقسم منهما حسد لمن أوتي شيئا على ما أوتيه منه وتمن من الحاسد أن يكون ذلك الشيء له دون الذي آتاه الله إياه فذلك ما هو مذموم ممن يكون منه ، وقسم منهما حسد لمن آتاه الله شيئا وتمن من الحاسد أن يؤتى مثل ذلك الشيء لا أن ينقل ذلك الشيء بعينه من المحسود حتى يخلو منه ويكون للذي حسده دونه وقد بين الله هذين المعنيين في كتابه فقال ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض إلى قوله : واسألوا الله من فضله أي حتى يؤتيكم مثله ويبقى من حسدتموه معه ما آتاه الله إياه غير مستنقص منه شيئا فكان الحسد الذي فيه تمني نقل الشيء المحسود عليه عمن آتاه الله إياه إلى حاسده عليه مذموما والحسد الذي ليس فيه ذلك التمني وإنما فيه حسد الحاسد المحسود على ما آتاه الله حتى يؤتيه الله من فضله مثله ليس بمذموم وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي كبشة الأنماري الذي رويناه فيما تقدم منا في كتابنا هذا الذي حكاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : « مثل الدنيا مثل أربعة : رجل آتاه الله علما وآتاه مالا فهو يعمل في ماله بعلمه ، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول : لو كان لي من المال مثل ما لفلان لفعلت فيه الذي يفعل أي في ماله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء » . وقد ثبت أيضا في حديث يزيد بن عبد العزيز عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد رويناه في هذا الباب فقد بان بحمد الله ونعمته أن لا تضاد في شيء ؛ لما قد رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن كل واحد من الحسدين مما قد ذكرناه في هذا الباب اللذين ذكرهما فيه فذم على أحدهما ولم يذم على الآخر متباينان في أحدهما ما ينبغي للناس أن يكونوا عليه وفي الآخر ما ينبغي للناس أن لا يكونوا عليه " مشكل الآثار(ج 1 / ص 463)
وقال الحافظ ابن حجر:- "أَيْ لَا رُخْصَة فِي الْحَسَد إِلَّا فِي خَصْلَتَيْنِ ، أَوْ لَا يَحْسُن الْحَسَد إِنْ حَسُنَ إلافيهما " . فتح الباري لابن حجر - (ج 14 / ص 242)
وخلاصة القول "أن هذا من الحسد الحلال، والحاسد فيه مشكور؛ لأنه إنما حسده على العمل بالقرآن والعلم، وحسد صاحب المال على نفقته له فى حقه فلم يقع الحسد على شىء من أمور الدنيا، وإنما وقع على ما يرضى الله ويقرب منه، فلذلك كان تمنيه حسنًا، وكذلك تمنى سائر أبواب الخير إنما يجوز منه ما كان فى معنى هذا الحديث إذا خلصت النية فى ذلك لله، وخلص ذلك من البغى والحسد" . شرح ابن بطال - (ج 19 / ص 379)
4- أن يراقب الله تعالى ويحفَظه في عمله :-
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ركبت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال لي: " يا غلام إني مُعَلِّمك كلمات ، إحفَظ اللّه يحفَظك ، إحفظِ اللّه تَجِدهُ تِجاهَكَ ، وإذا سألتَ فَلتسألِ اللّه ، وإذا إستَعَنتَ فاستَعِن باللّه ، واعلَم أن الأمّةَ لو إجتمَعوا على أن ينفعوك لَم ينفعوكَ إلا بشيء قد كتبهُ اللّهُ لكَ ، ولو إجتَمَعوا على أن يَضّروك لم يضُّروك إلا بشيء قد كَتَبَهُ اللّهُ عَليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُحُف" (رواه أحمد و الترمذي)
فعلى كل صاحب مهنة أن يراقب الله تعالى في عمله ، فإنه مسؤول عنه ، ومحاسب عليه وأن يحفظه فيه ، ليحفظه الله عز وجل ، ويكتب له التوفيق والتقدم في عمله0
قال تعالى: " والّذينَ جاهدوا فينا لَنَهدينّهُم سُبُلَنا " وقال أيضا: " ومَن يَتَّق اللّهَ يَجعَل لَهُ من أمرهِ يُسرا ". وكلما إزداد المؤمن حفظا لربه ، كلما إزداد عون الله له وتسديدهُ وتوفيقه ، فإذا أحَسَن وجد الثواب سريعا كإجابة الدعاء أو تيسير المزيد من الصالحات أو وقايته من السيئات 0
5 الرضا بمهنته والاعتزاز بها :-
لأن هذا يساعد على التميز والإتقان في العمل، وهو نوع من الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لقدره 0
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو: " أللّهُمّ إنّي أسألُكَ الرضا بعد القضاء "
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وإجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس ، وأدّ ما إفترض الله عليك تكن من أعبد الناس ، ولا تشكُ من هو أرحم بك (الله عزوجل) إلى من لا يرحمك (الناس)ـ ، وإستعن بالله تكن من أهل خاصته.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فإن الخير كله في الرضا ، فإن إستطعت أن ترضى وإلاّ فاصبر.
، وواضح أن الواجب على العبد أن يرضى بالقضاء الذي أمر الرضاء به ، إذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز للعبد أو يجب عليه الرضا به ، كالمعاصي ومختلف أنواع محن المسلمين... ويعني ذلك أنه عند وقوع المعصية والمحنة يكون الواجب هو العمل على تغييرها لا الخنوع والرضا بها . ويمكن للعبد أن يستشعر رضاء الله عنه إذا كان هو راضيا عن ربه في حالات الضراء والسراء على السواء ، قال تعالى " رضِيَ اللّهُ عَنهُم ورَضوا عَنهُ "
فالخير ما يختاره الله لعبده المؤمن لا ما يحبه هو لنفسه.
6- أهمية الصبر على متاعب المهنة:-
فلكل مهنة متاعبها التي لا يعرفها إلا أصحابها، ومن خبرها ، وفتش فيها ، فيجب عليه أن يروض نفسه على الصبر، وهومن أقسام الصبر على طاعة الله ،لأن العمل طاعة وعبادة لله 0
عن صهيب بن سنان رضي الله عنه(43) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " عَجَبا لأمر المُؤمن إنّ أمرَهُ كلّهُ لهُ خير ، وليسَ ذلك لأحَد إلاّ للمُؤمن ، إن أصابتهُ سَرّاءُ شَكَرَ فكان خيرا لهُ وإن أصابَتهُ ضّراء صَبَر فكانَ خيرا لهُ "
(رواه مسلم)
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :ما أصابتني مصيبة إلاّ رأيت أن لله عليّ فيها ثلاث نعم: أن لم تكن المصيبة في ديني ، ولم يكن ما هو أكبر منها فدفع الله بها ما هو أعظم منها ، والثالثة ماجعل الله فيها من الكفارة لما كنا نتوقاه من سيئات أعمالنا.
7- إتقان العمل في مهنته وعمله:-
إتقان العمل هو عبادة مستقلة عن العمل ، وطاعة تامة لله حتى لو كان من أمور الدنيا ،فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" إن اللّه يُحبُّ إذا عَمِلَ أحَدَكُم عملا أن يُتقِنَهُ " (رواه البيهقي في شعب الإيمان)
فالمسلم يسعي إلى الإبداع في مهنته ، ويبالغ في اتقانها على أكمل وجه
فأنت تعمل العمل من أمور الأخرة أو الدنيا مما ليس فيه معصية لله تعالى بنية صالحة فتثاب على ذلك لأن ذلك عبادة . فإن أتيت بذلك العمل على أكمل وجه كان ذلك عملا إضافيا له أجره المستقل ، وهو ما يحبه الله تعالى . فقد خلق الله تعالى " الإنسان في أحسن تقويم " وهوسبحانه " الذي أحسنَ كل شيء خَلَقَهُ " وكذلك يريد لعباده إتقان الأعمال.
إن المسلمين اليوم كثيرا ما يعملون العمل فلا يتقنونه ، وهذا هو أحد أسباب تأخرهم ، في الوقت الذي أخذت الأمم الأخرى باتقان العمل الدنيوي فتقدمت . وإتقان العمل هو غير الحرص على الدنيا الذي نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسسلم عنه في أحاديث أخرى ، فالمؤمن يتقن العمل إبتغاء وجه الله وهو يعيش في الدنيا وقد أفرغ قلبه من التعلق بها وبمباهجها والحرص عليها . ومن أتقن العمل لقي الجزاء ، وأقل الجزاء هو الجزاء الدنيوي.
فالمؤمن إذا عمل عملا أتقنه لأن الله يحب ذلك ، فهو يُحَضِّرُ كل مستلزماته ويبحث عن مقومات النجاح ويخطط لإكمالها ويتعاون مع غيره في سبيل ذلك ، ويفرغ جهده كله في إنجاح العمل ، وأثناء كل ذلك يتكل على الله تعالى ويدعوه بالتوفيق والسداد ، وهو لا ينتظر من ذلك جزاءً دنيويا لأن نتيجة العمل قد تظهر في حياته وربما بعد مماته ، وهكذا فإن إتقان المسلم للعمل هو عبادة إضافية يرجو ثوابها من الله تعالى.
8- أهمية التوكل على الله لجميع أصحاب المهن :-
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
" لو توَكّلتُم على الله حَقّ توَكُّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرزُقُ الطيرَ تَغدو خِماصا وتَروحُ بِطانا " (الترمذي وقال حديث حسن وصححه الحاكم)
معناه تذهب في أول النهار ضامرة البطون من الجوع وتعود آخره ممتلئة البطون . والتشبيه بذهاب الطير بحثا عن قوتها يشير بوضوح إلى أن التوكل على الله حق التوكل هو البحث عن الرزق لا القعود إنتظار أن يأتِ الرزق إلى الإنسان كما يظن ذلك بعض الجهال . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعرابي الذي ترك ناقته بغير عقال ظنا منه أن ذلك هو التوكل على الله فقال له: " إعقِل وَتوَكّل " (53). التوكل هو الثقة بما في يد الله واليأس مما في أيدي الناس. قال عبدالله بن المبارك(54): من أخذ فلسا من حرام فليس بمتوكل . وسئل أحد الصالحين(55) عن التوكل فقال: إن كان لك عشرة آلآف درهم وعليك دانق دين لا تأمن أن تموت ويبقى دينك في عنقك ، ولو كان عليك عشرة آلآف درهم دين من غير أن تجد له وفاء لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها عنك . فالتوكل على الله يكون بفقدان الثقة بالمال ، فالغني المتوكل يتوكل على الله لا على ماله ، والفقير المعدم يثق بالله ويرجو عنايته ويتوكل عليه ولا يفقد الثقة به بسبب عدم توفر المال لديه. قال اللّه تعالى: " وتوكّل على الحيّ الّذي لا يموتُ " (56) وقال أيضا: " وعلى اللّه فليتوكّل المُؤمنون " (57) وقال: " ومَن يتوكّل على اللّه فَهُوَ حَسبُهُ " (58).ـ
وروي أن موسى عليه السلام قال يارب ممن الداء والدواء ؟ فقال تعالى مني ، قال موسى فما يصنع الأطباء ، قال: يأكلون أرزاقهم ويطيبون نفوس عبادي حتى يأتي شفائي أو قضائي. فالمؤمن متوكل على الله آخذ بالأسباب لأن رب الأسباب قد أمره بالأخذ بها لكن قلبه معلق بالله تعالى لا بالأسباب.
9- القناعة بما آتاهم الله من فضله :-
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " قد أفلح من أسلَمَ ورُزقَ كفافا وقَنّعَهُ اللّهُ بما آتاهُ "
(رواه مسلم)
10- الخوف من التقصير في أعمالهم ومهنهم:-
المؤمن يخاف أن يؤاخذه الله تعالى بأخطائه وتقصيراته ، ولهذا فهو يخاف بعد بذل جهده، وافراغ مافي وسعه، فالوجل من الله والخوف منه دليل معرفة العبد بالله، وحسن سريرته، وليس دليل سوء السريرة ، خاصة وأن العبد يعلم أنه ضعيف ، وأن أعماله ناقصة ، وأنه فقير على توفيق الله وحفظه على الدوام0
11ـ الورع عند كسب الرزق والبعد عن الشبهات
عن كعب بن عجرة(36) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إتق الله بطاعته ، وأطع الله بتقواه ، ولتخفَّ يداك من دماء المسلمين وبطنك من أموالهم ولسانك من أعراضهم . فرض الله إكتساب الرزق من الحلال وحرم إكتسابه من الطرق غير المشروعة من غش وسرقة ورشوة ونقص في المكيال وغصب أموال الناس. فمن اكتسب المال من الحرام فقد البركة ، فلا ترى أثرا صالحا لماله ، وإن أنفق ماله في غذاء نفسه فهي ستلقى عقابها في الآخرة ، وإن غذى به عياله فقد غشهم وما نصح لهم فلا عجب إن عقَّه ولده وفسدت أخلاق من يعيلهم نحوه ونال عقاب ما فعل في حياته ولعذاب الآخرة أشد.
قالت عائشة رضي الله عنها إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة ، هو الورع. وكان عبد الله بن المبارك يقول: رد درهم شبهة أحب إلي من أن أتصدق بستمائة ألف درهم.
قال سهل التستري: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى . فالمعدة موضع يجمع الأطعمة ، فإذا طرحت فيه الحلال صدرت ألأعضاء بالأعمال الصالحة وإذا طرحت فيه الشبهة إشتبه عليك الطريق إلى الله وإذا طرحت فيه التبعات كان بينك وبين الله حجاب.
إن لأكل الحلال علاقة وثيقة بإستجابة الدعاء. فقد روى مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ألرَجُلُ يطيلُ السَفَرَ أشعَثَ أغبَر يَمُدّ يدهُ إلى السماء يا رَبّ يارَبّ ومطعمهُ حَرام ومَلبَسُهُ حرام فأنّى يُستجابُ لَهُ "
12- إجتناب الكذب والخيانة:-
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يُطبَعُ المُؤمِنُ على كُلّ خُلُق ليس الخيانةُ والكذبُ " (رواه البيهقي وأحمد)
الكذب إذا جبل عليه المرء قاده لا محالة إلى النار. فالكذب يقود إلى النفاق وهو أساس كل الأعمال الخبيثة . فمرتكب الخطايا الكبيرة إن لم يكن كذابا فإنه يخشى إن صدق القول مع الناس أن يفتضح أمره فيكون كذبه حافزا له على الإستمرار في إرتكاب الذنوب . وإخلاف الوعد ما هو إلاّ كذب فعلي وقولي معا . والغش والخيانة كذب بالأفعال وقول الزور وشهادة الزور ماهي إلاّ كذب في أبشع صوره وهكذا كان الكذب لمن إعتاد عليه أساسا للخبائث بل هو أكبر من أم الخبائث -الخمر-.
أما الأمانة فقد قال الله تعالى فيها: " إنّ اللّه يأمُرُكُم أن تُؤدوا الأماناتِ إلى أهلِها " ، فخيانة الأمانة لا يُجبَلُ عليها مؤمن ولن يوفق الله خائنا في مسعاه: " وأنّ اللّهَ لا يَهدي كيدَ الخائنينَ ". وأكبر الخيانة هي خيانة الله ورسوله التي هي النفاق الخالص. والرياء بالأعمال من الخيانة ، وعدم حفظ ما إؤتُمن عليه المرء من مال أو عمل يتكسب به أو يوثق منه عليه ، كل ذلك من الخيانة . بل إن من أعظم الخيانة أن تحدث جليسك بحديث تكذب عليه فيه وهو مصدِّق لك . والدعاية الكاذبة لسلعة أو رأي هو خيانة . ولا تجوز الخيانة حتى مع من خانك . " أدّ الأمانةَ إلى مَن إئتَمَنَكَ ولا تَخُن مَن خانَكَ " فالمؤمن قد امتزج الصدق وحفظ الأمانة بدمه ولحمه وأخذ عليه لبّه ، فلا يعرف الكذب والخيانة.
ومن أنواع الخيانة القبيحة: التجسس. فالتجسس هو خيانة لمن أمن جانب المرء بينما هو يتلصص على الخفايا سواء كان ذلك لنفسه أو لغيره. قال تعالى: " ولا تَجَسَسوا ولا يَغتَب بَعضُكُم بَعضا " ، والتجسس على المسلمين من أقبح الأخلاق وأرذلها ولا يقوم بها إلا من باع دينه إبتغاء متاع قليل من متاع الدنيا.
13- إجتناب العجب والكبر والحذر منهما:-
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كانَ في قلبه مثقالُ حَبّة من خَردَل من كِبر ، ولا يَدخُلُ النارَ مَن كانَ في قَلبه مثقالُ حَبَّة من خَردَل من إيمان " (رواه مسلم)
إن العجب يدعو إلى المعجب ليغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان وأن له على الله منّة وله عنده حقا بأعماله التي نسي أنها هي نعمة وعطية من عطاياه جل جلاله وقد يخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها ، وقد نهى الله تعالى أن يزكي المرء نفسه فقال: " فَلا تُزَكّوا أنفُسَكُم هُوَ أعلَمُ بمَن أتَّقى "، فمن أعجب برأيه وعمله وعقله منعه ذلك من الإستفادة من الإستشارة والسؤال فيستبد برأيه ويعجب بالرأي الخاطئ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره ولا يفرح بخواطر غيره فيصرّ عليه ولا يسمع نصح ناصح ولا وعظ واعظ بل ينظر إلى غيره بعين الإستجهال والإزدراء ويصرّ على إخطائه. فلذلك كان العجب من المهلكات 0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق